عندما تصبح القرصنة جهادا في سبيل الله

 http://www9.0zz0.com/2010/04/03/13/340012068.jpg
جزء من اطروحة الدكتوراه الخاصة بالباحث عن النشاط البحري العثماني في البحر المتوسط خلال القرن السادس عشر.

يعدّ موضوع القرصنة من المواضيع البالغة الأهمية في تاريخ البحر المتوسط، وما زال يشكل نقطة خلاف بين المؤرخين والباحثين، وهو بلا شك موضوع يستحق دراسة مستقلة، كونه يرتبط بقضايا قانونية وفقهية وفيلولوجية، من دونها لا يمكن فهم المعنى الدقيق لكلمة القرصنة. وتأتي نقطة الخلاف بين المؤرخين لا بشأن الكلمة نفسها، وإنما بشأن المعاني المتعددة التي تحملها، لاسيما إذا حاولنا فهم معانيها المختلفة وتطور تلك المعاني عبر العصور وبلغاتها المختلفة. ولفهم القرصنة لابد أن نقرّ أولا إنها شكل من أشكال الحروب.

كانت الحروب البحرية في البحر المتوسط على نوعين: حروب رسمية، وحروب غير رسمية. فالحروب الرسمية هي تلك التي تشنها أساطيل دولة ما ضد أساطيل دولة أخرى، بأساطيلها الخاصة وقادتها التابعين لها ولنظامها الإداري، ولابد أن يجري هذا النوع من الحروب حينما يكون الطرفان في حالة خلاف. أما النوع الآخر من الحروب، وهو الحرب غير الرسمية فقد سُميت ﺒ”القرصنة“، وهي نوع من العمليات العسكرية يقوم به مغامرون بحريون بهدف الإستيلاء على سفن أو حمولات أو أشخاص بهدف إسترقاقهم أو بيعهم. وقد دأب كثير من المؤرخين الغربيين ـ أو بالأحرى معظمهم، إن لم يكن كلهم ـ على وسم النشاط البحري العثماني في البحر المتوسط ﺒ”القرصنة“، وعلى مَن قام به ﺒ”القراصنة“، وقلدهم في ذلك كثير من الكتّاب والمؤرخين العرب، غالبا من دون قصد. وقد إنبرى عدد من المؤرخين العرب مؤخرا للتصدي لهذا الموضوع ومعالجته معالجة علمية جادّة، بهدف تصحيح فهم هذا المصطلح ووضعه ضمن إطاره التاريخي الصحيح.

في معالجتنا لهذا الموضوع لابد أن نركز على قضية واحدة، ألا وهي كيف نُقنع الطرف الآخر بوجهة نظرنا؛ إذ لا يكفي أن ننكر صفة القرصنة على النشاط البحري الإسلامي عامة والعثماني خاصة فحسب، وإنما كيف نثبت، بتقديم الأدلة والبراهين، إن هذا النشاط نوع من الأعمال المشروعة، هدفه الرئيس حماية المواقع والثغور الإسلامية أولا، وردّ الأخطار المُحدقة بها وملاحقتها والقضاء على مصادر قوتها ثانيا.

في المقام الأول، ينبغي علينا تعريف ما المقصود بلفظتي ”قرصنة“ و ”قرصان“ كما يورده الباحثون الغربيون، وما مقابلها في اللغة العربية.

عادة ما يطلق المؤرخون الغربيون على النشاط العثماني في البحر المتوسط تعبيرين: الأول (Privateering)، الذي يعني عملا حربيا بحريا بتفويض من الحكومة يقضي بمهاجمة سفن العدو، و(Privateer)، الذي يعني قائد المركب الذي يقوم بهذا العمل. أما التعبير الثاني فهو (Piracy)، الذي يعني القيام بالإستيلاء على ممتلكات الآخرين من دون ترخيص، ومن دون وجه حق، ولفظتي (Pirates) و (Corsairs)، على الأشخاص الذين يقومون بهذا النوع من العمل. والكلمة الأخيرة تعني تحديدا القرصان بمعنى لص البحر، أو المركب الذي يقوده هذا اللص.

وقد يتبادر إلى الذهن إن التعبيرين متشابهان إلى حد بعيد. ولكن ثمة إختلافات جوهرية من الناحية القانونية. فالتعبير الأول، الذي سنطلق عليه لفظة ”القرصنة / الغارة“ ـ وإن كانت غير رسمية ـ هو حرب شرعية تجري بتخويل من الدولة. ولهذا النوع من القرصنة قوانينه الخاصة، وأحكامه، وعاداته، وتقاليده. أما التعبير الثاني، الذي سنطلق عليه لفظة ”لصوصية البحر“، فلم يدخل في الإستخدام إلا خلال القرن السابع عشر. وقد أطلقه الإسبان على القباطنة العثمانيين الذين كانوا يشنون الغارات على السواحل الإسبانية بهدف الإستيلاء عليها أو إيقاع أكبر قدر ممكن من الأضرار بها لمنعها من متابعة نشاطاتها في سواحل شمالي أفريقيا والإغارة على الثغور الإسلامية هناك. ويذكر فرناند براودل ـ ونحن مدينون له إلى حد بعيد لتوضيحه الفرق بين التعبيرين ـ إن الإسبان أطلقوا هذا المصطلح إبتداءً من سنة 1614، حينما طُرد القباطنة المسلمون من مرمورة وإستقروا في الجزائر، وإن هذا التعبير وفد إلى البحر المتوسط مع السفن التي كانت تجوب المحيط الأطلسي.

وفي الوقت الذي توفر فيه ”القرصنة / الغارة“ فرصة للتفاوض بين الطرفين المتنازعين، عن طريق توفير شبكة من الوسطاء لحل الخلافات، وإفتداء الأسرى، وتعويض الضحايا، فإن ”لصوصية البحر“ لا توفر مثل هذه الفرصة، فليس هناك قانون يحكمها أو قوة تُلزم القائم بها بالتقيّد بضوابط أو روادع معينة، قانونية كانت أم أدبية. وفي الوقت الذي لم يكن فيه هذا النوع من القرصنة منتشرا في الثغور الإسلامية، ولاسيما سواحل البحر المتوسط في شمالي أفريقيا، والسواحل التي دخلت في حوزة الدولة العثمانية، فإنه كان منتشرا على السواحل المسيحية. وثمة جماعات متخصصة كانت تقوم بهذا النوع من القرصنة، مثل الأوزكوك (Uzkoks) في سيغنا (Segna) وفيومي (Fiume) بإيطاليا. وهؤلاء لا يخضعون لدولة أو دين أو فئة معينة، ولا حتى لقانون معين، وإنما هم مجرد قُطاع طرق ولصوص بحريون، وكانوا يسرقون المسيحيين بالقدر نفسه الذي يسرقون به العثمانيين. ومن هنا، فإن مسألة تحديد نشاطاتهم كانت محدودة، إن لم تكن صعبة. وهذا النوع لا وجود له بين ”القراصنة“ العثمانيين؛ فلم نسمع عن أحد قام بالإغارة على ممتلكات الدولة العثمانية أو ممتلكات الدول الخاضعة لها أو المتحالفة معها، ولا على رعاياها أو سفنها، وإنما على ممتلكات القوى المعادية لها، غالبا لدعم إسطولها وقوتها البحرية، بمعنى تعزيز قدرتها على مواجهة أعدائها، وهو نوعٌ مشروعٌ من العمليات البحرية، لأن الدولة العثمانية كانت في حرب مفتوحة مع أعدائها خلال القرن السادس عشر.

ولعل من المناسب هنا أن نقدم مثالين لتحديد وضع القباطنة العثمانيين مقارنة بغيرهم من القراصنة الأوربيين. ففي حديثه عن هذا الموضوع ذكر المؤرخ هارولد لامب ما نصه:
”بدأ أحدهم منذ أمد بعيد بتسمية القادة البحريين العثمانيين بالقراصنة ولصوص الساحل المغربي البحريين. ولم يكن ذلك موجودا في عهدهم، لأن هذه الكلمات لم تكن مستعملة حينذاك... إنهم لم يكونوا قراصنة أو لصوصا بحريين على الساحل المغربي ولا أمراء بحر، كما لم يبحروا من أوكار قراصنة. ولكنك ستجد جميع هذه المصطلحات في كتب التاريخ الحديثة الغربية“.

ويستطرد لامب، في مقارنته بين خير الدين وأندريا دوريا قائد الإسطول المسيحي، قائلا:
”... وكان بمقدور خير الدين أن يصبح قرصانا عظيما، لكنه فضّل أن يبحر مستظلا بعلم واحد هو العلم ]التركي[ الذي كان يرفعه مع راية قيادته، وكان يحمل رتبة أمير بحر، ويتقاضى مرتبه من الخزينة التركية، ويبني سفنه في المسفن، وينفذ خطة أمة واحدة، محاربا ست إمارات أو قوى معادية. أما خصمه أندريا دوريا فعادة ًما كان يوصف بأميرال الإمبراطورية. وكان يبدل أعلامه كما يبدل ولاءه، وكانت له ثلاث عشرة سفينة هي ملكه الخاص في الأساطيل الجنوية والفرنسية والإسبانية، وكان يطالب بنسبة مئوية من الغنائم...“.

ولابد من الإشارة إلى إن أندريا دوريا، الذي كان يعمل لصالح الملك الفرنسي فرانسوا الأول كان قد غيّر ولاءه لصالح الإمبراطور الإسباني شارل الخامس، إذ لم يكن مقتنعا بالمبلغ الذي كان يدفعه له الملك الفرنسي، في حين عرض عليه الإمبراطور مبلغ ستة آلاف دوكة عن كل سفينة.

أما الباحثة الأمريكية سندي فالار (Cindy Vallar) فتصف القباطنة العثمانيين كالآتي:
”لقد كان القراصنة البربريون (Barbary Corsairs) قادة مراكب مفوّضين (Privateers) للإمبراطورية العثمانية أكثر من كونهم قراصنة (Pirates)... وكان الهدف من غاراتهم قد تحوّل من النهب الصِرف وأسْر الأشخاص إلى الجهاد ضد روما والمسيحية“.

وتستطرد الباحثة فالار فتقول:
”وتنبغي الإشارة أيضا إلى إن معظم هؤلاء القراصنة كانوا مسيحيين تحولوا إلى الإسلام، وكانوا يقومون بنشاطهم للحصول على الغنائم بصورة شرعية من سفن البحر المتوسط، أو للحصول على حريتهم من العبودية. وقد دأب العالم المسيحي على عدّ هؤلاء قراصنة وإرهابيين، وعاملوهم على هذا الأساس“.

من هنا يتبين إن النشاط البحري العثماني، الذي يسميه الغربيون ”قرصنة“، كان نوعا من أنواع العمليات الحربية المشروعة، أو ما يمكن أن نطلق عليه تسمية ”الغارات البحرية“. فقد كان القباطنة العثمانيون يعملون ضمن إطار النظام الإداري العثماني، ومن ثم فإن نشاطهم كان موجها لخدمة قضية الدولة العثمانية في حربها مع خصومها السياسيين في البحر المتوسط، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، كانت الدولة العثمانية تمثل العالم الإسلامي والخلافة الإسلامية بعد سيطرتها على الأماكن المقدسة في شبه الجزيرة العربية. بمعنى آخر، فإن القباطنة العثمانيين الذين كانوا يقومون بنشاطهم البحري إنما كانوا يقدمون خدماتهم إلى دولة إسلامية، وبالأحرى إلى الإسلام نفسه.

وبما إن الإسلام لم يكن يعترف إلا بنوع واحد من الحرب، بصفته حربا شرعية، ألا وهو الجهاد، الذي يشنُ لنشر الإسلام وتوسيع الممتلكات الإسلامية وحمايتها، فلابد إذن إن ”القرصنة“ العثمانية، التي أصبحت لدينا الآن نوعا آخر من أنواع العمليات العسكرية المشروعة، وإن تكن غير رسمية، أصبحت مرادفة لمفهوم ”الغزوة“ أو ”الغارة“، التي كانت تعني شيئا آخر، خلاف ما يرمي إليه الكُتاب الغربيون.

ومنذ عهد الفتوحات الإسلامية الأولى، كان المسلمون يشنون الجهاد ضد أعدائهم برا وبحرا بوازع ديني، مصحوب بالتقليد العسكري الذي ورثوه عن حقبة ما قبل الإسلام المتمثل ﺒ”الغزوات“، التي تبناها الدين الإسلامي. وقد إنسجم هذا التقليد مع التطلعات السياسية والعسكرية للدولة العثمانية منذ بداية ظهورها وإستمر معها فيما بعد. وقد إستجاب المحاربون المسلمون، المنضوون تحت لواء الإمبراطورية العثمانية، بأعداد متزايدة، على طول سواحل شمالي أفريقيا وغيرها من المناطق التي خضعت للنفوذ العثماني، إلى دعوة السلاطين العثمانيين للفتوحات، لنشر الإسلام وتوسيع رقعة الإمبراطورية. وعلى طول تلك المناطق بدأت الغارات أو ”الغزوات“ تُشن لحماية ”دار الإسلام“ ضد ”دار الحرب“. وكان السلاطين العثمانيون يفتخرون بلقب ”الغازي“ ويضعوه أمام أسمائهم تفاخرا، وكان أشهرهم، السلطان سليمان القانوني، يلقب نفسه ”غازي الغزاة“. والشئ المهم الآخر إن لقب ”الغازي“ كان مرادفا لكلمة ”المجاهد“ لدى سلاطين آل عثمان، لكن من المؤكد إن الفرق بينهما موجود في الفقه الإسلامي، بل وحتى في الموروث العربي.

على أية حال، عندما حدث التوسع البحري الإسلامي من جانب، وحدثت مأساة المسلمين في الأندلس من جانب آخر، إنخرط كثير من أولئك ”القراصنة ـ الغزاة“ بالعمليات البحرية، يدعمهم السلطان العثماني، الذي أصبح الآن ”خليفة المسلمين وحامي حمى الدين“، بعد إعلانه الخلافة الإسلامية، جزءا لا يتجزأ من العقيدة السياسية والدينية للدولة العثمانية. وعليه، فهو زعيم للجهاد ضد الكفار، مما أضاف زخما معنويا وماديا كبيرا لدولته ولسلطته على حد سواء.

من هنا، فإن مصطلح القرصنة، ونعني به التعبير الأول الذي يستخدمه الأوربيون (Privateering)، الذي أطلقنا عليه تسمية ”القرصنة / الغارة“، أصبح يعني، من بين ما يعنيه، ”الغزوة“ بمعنى الإغارة على ممتلكات العدو، ويعني ”الجهاد“ أحيانا عندما يتعلق الأمر بمسألة الدفاع عن الإسلام ونشره، وهو مختلف تمام الإختلاف عن المفهوم الذي روّجه الأوربيون بوسم القراصنة العثمانيين ـ الذين سنطلق عليهم تسمية قباطنة ـ بصفة ”القرصنة“ بمعناها الضيق الذي يعني السرقة واللصوصية وقطع الطريق. لكننا، من جانب آخر، ينبغي أن لا نفهم من ذلك إن الأوربيين الغربيين الذين يستخدمون لفظة (Privateering)، كانوا يقصدون بها مفهوم الغزوة أو الجهاد كما توصلنا إليه هنا، أو كما يفهمه المسلمون عامة. بالأحرى، فهم يطلقون لفظة أخرى وهي لفظة (Raid)، على الغزوة أو الغارة مثلا، ولفظة (Spoil) على الغارة المُحمّلة بالغنائم، أو الغنائم نفسها، وهو ليس المفهوم الذي نقصده بالتأكيد. وفي العموم، فإنك نادرا ما تجد باحثا غربيا يستخدم لفظة (Pirate)، على القباطنة العثمانيين، بدلا من ذلك، فإننا غالبا ما نقرأ تعبير (The Barbary Corsairs)، مثلا، الذي يعني القراصنة البربريين، أو قراصنة الساحل البربري، وهي تسمية خاطئة بكل الأحوال، فهم لم يكونوا برابرة، وإنما مسلمين عثمانيين، كانوا، في الغالب، مسيحيين من مناطق اليونان والبلقان التي دخلت في حوزة الدولة العثمانية.

إن تعدد المصطلحات الأوربية الخاصة بالقرصنة وتنوع معانيها ودلالاتها اللغوية، وعدم وجود ما يماثلها في اللغة العربية أو في الموروث الإسلامي، بإستثناء مفردة واحدة هي (القرصنة)، يدل على إن هذه اللفظة دخيلة على الموروث العربي الإسلامي من جانب، ومتأصلة في الموروث الأوربي من جانب آخر. من هنا يمكننا مسك الخيوط الأولى لرد تهمة (القرصنة) عن النشاط البحري للمسلمين عامة، والعثمانيين خاصة


بواسطة د. أنيس القيسي

0 تعليقات :

إرسال تعليق

Recommend on Google