أسرار ألف عام


 

ولد «علي أكبر حكمي زاده» في مدينة «قم» وسط إيران لعائلة متديّنة، إذْ كان والده حجة الإسلام والمسلمين الشيخ مهدي قُمِّي پايين شهري، أحد أبرز علماء مدينة «قم» في وقته، إلى درجة أنه كان هو الذي استقبل واستضاف المرجع الكبير آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري حين انتقل من أراك ليستقر في قم ويؤسس فيها الحوزة العلمية (أي مركز الدراسات الدينية) عام 1340 هـ. ق.، كما كان الشيخ مهدي قُمِّي پايين شهري صهراً لآية الله أبي الحسن الطالقاني والد مرجع التقليد الإيراني المناضل الشهير آية الله السيد محمود طالقاني، مما يعني أن «حكمي زاده» كان ابن أخت المرجع المجاهد آية الله طالقاني. نشأ «علي أكبر حكمي زاده» في هذا الجو العلمي الديني في قم فبدأ حياته طالباً للعلوم الشرعية وقطع في دراستها شوطاً جيِّداً حتى كتب حاشيةً على كتاب «الكفاية في أصول الفقه» للآخوند الخراساني، الذي يُعَدّ آخر كتاب أصوليٍّ يُدَرَّس في مرحلة السطح. وبهذا صار «حكمي زاده» في سلك علماء الدين الشيعة التقليديين، ولبس العمَّة ولباس علماء الدين التقليدي، بل أصبح من قرَّاء المراثي في منابر مجالس العزاء الحسيني ومآتم آل البيت، وقد ذكر المؤرخ «رسول جعفريان» عنه أنه كان من خطباء المنابر المُفَوَّهين وقُرَّاء المراثي الجيِّدين. يظهر أن «علي أكبر حكمي زاده» كان منذ بدايات تعلمه ذا نفسية ناقدة ثائرة على ما حولها، وقد تأثر بفكر العلماني الملحد «أحمد كسروي» وبدأ يتحول شيئاً فشيئاً عن اتجاهه الديني التقليدي نحو اتجاه عقلاني عصـراني رغم أنه لم يصل إلى حد الإلحاد وإنكار أساس الدين بل بقي يظهر إيمانه بأساس الإسلام، لكنه أخذ ينتقد معظم العقائد والأعمال الشيعية الرائجة في بلاده باسم الدين، ويدافع عن سياسات الملك «رضا خان» التغريبية. وخلع «حكمي زاده» عن نفسه لباس المشيخة ثم ألف كُتَيِّبَه أو رسالته التي اشتهر بها أعني رسالة «أسرار ألف عام» ونشرها كملحق في مجلة «پرچم» عام 1322 هجرية شمسية، (الموافق لعام 1363 هـ. ق. أو 1944م) وهاجم فيها، بنقد لاذع وساخر، كثيراً من العقائد والأعمال الرائجة بين الشيعة الإمامية في بلاده، ورفض فكرة صلاحية الشرع لكل زمان ومكان، وإمكانية تطبيق الشريعة الإسلامية بالوضع التي هي عليه في المجتمع، ودعا إلى اتباع قانون العقل وقانون الطبيعة، والتأقلم مع العصر الحديث. وأحدث برسالته هذه هزة في الأوساط الدينية، حَدَتْ باثنين من أكابر مجتهدي الشيعة الأعلام في عصره لكتابة ردٍّ عليه، هما آية الله الخالصي، وآية الله الخميني. اتجه «حكمي زاده» بعد ذلك للعمل التجاري (تربية الدواجن) وتخصص وبرع فيه، وخفت ضوؤه ولم يعد أحد يسمع به، حيث بقي بعيداً تماماً عن الساحة العلمية والدينية، حتى أدركته الوفاة في طهران سنة 1407 هـ. ق. أي1987م .

كتاب اسرار الف عام عبارة عن نقد ذاتي وجَّهه مؤلِّفه إلى كثير من الأعمال والعقائد الشيعية السائدة في إيران في عصره (انتشر الكتاب عام 1944م)؛ فقد انتقد مثلاً تشييد القباب والأضرحة على القبور والتردد لزياراتها وطلب الحوائج والشفاء من أهلها، واعتبر ذلك وثنيةً تناقض «التوحيد» الذي هو أساس الإسلام وركنه الركين. كما انتقد الاعتقادات في قدرات أئمة أهل البيت عليهم السلام، والخرافات السائدة بشأنهم في المجتمع، وموضوع الاستخارة والاستشفاء بالتربة . كما نقد فكرة «الإمامة» في التصور الشيعي مبينا أنها صارت من الناحية العملية أهم من النبوة رغم أن المفروض أن تكون أدنى درجة منها بكثير، وأنها - أي الإمامة- أُخْرِجت في الفكر الشيعي (الإمامي) عن سياقها الأصلي البسيط في الإسلام. كما نقد المؤلف أيضاً بعض أحكام الفقه الشيعي لا سيما تلك المتعلقة بالطهارة والنجاسة، وبالزكاة والخُمس. والأهم من كل ذلك نقده الصريح للموروث الحديثي وكتب الرواية والأخبار لدى الشيعة إلى درجة أنه دعا إلى نبذ الحديث كلَّه جملةً وتفصيلاً، وأتى بنماذج لبعض الروايات المخالفة للعقل والعلم والحس والموجودة في كتب الحديث الشيعية الإمامية. ولم يقتصر «حكمي زاده» على طرحه النقدي الديني فحسب بل تعرَّض أيضاً في قسم جيِّد من كُتَيِّبه أو رسالته هذه إلى مناقشة موضوعات سياسية واجتماعية تتعلّق بالحكومة والدولة والقوانين الوضعيّة، حيث انتقد بشدة الدعوة إلى ولاية الفقيه وإلى تحكيم الشريعة بصورتها الحالية معتبراً القول بصلاحية هذه الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان شعاراً لا أساس واقعيَّ له! واعتبر أن تطبيق هذه الشريعة بصورتها الحالية هو بمثابة قراءة الفاتحة على البلاد والعباد! على حد قوله. ودعا بدلاً من ذلك إلى اتّباع العقل والعقلانية والأخذ بقانون الطبيعة، مكرِّراً في رسالته القول بأن العقلَ رسولَ الله القريب للإنسان، مبدياً إعجابه بدولة وحكومة الملك «رضاه شاه» وسياساته في العصرنة، فدافع عنها أمام هجمات علماء الدين عليها التي لا مُسوِّغ لها سوى المصالح والأغراض الشخصية في نظره. لا عجب إذن أن نجد هذا الكُتَيِّب على صغره قد أثار غضب الأوساط الدينية وسخطها، حيث رأت في كتابه هجوماً على الدِّين والتشيُّع، وتحدّيّاً لمشروعها الداعي إلى العودة إلى الإسلام (ضمن إطار المذهب الشيعي الإمامي السائد في البلاد)، ووجوب تحكيم الشريعة والفقه الإسلامي في الدولة والمجتمع، ورفض ومناهضة الاتجاه التغريبي الذي كان الحُكْم المَلَكِي سائراً فيه. الملفت أن كثيراً مما طرحه ترك آثاره المستمرّة لاحقاً، ولا يزال موضع نقاش وجدل وأخذ وردّ في الأوساط الثقافية والدينية في إيران بشكل خاص، وفي أوساط الشيعة بشكل عام حتى اليوم!

0 تعليقات :

إرسال تعليق

Recommend on Google